رجلٌ يستحقُ الذكر (وصفي هوارة)

 

عرفت هذا الرجل منذ سنوات عديدة من خلال أصدقائه و محبيه,  رجلاً ممتعاً و نديماً لا تمل منه لطرافته و خفة دمه.  عرفته في بيته فكان طيباً و عفوياً لا تفارق البسمة وجهه,  يتلقاك و كأنه يعرفك منذ زمن بعيد فيفتح لك قلبه قبل أن يفتح بيته و يغمرك بأحاديثه الشيقة, بعفوية إبن الريف و طيبته دون أن ينسى بأنه مربى الحقول و البساتين, ذكرياتها ما تزال محفورةً في قلبه و خاطره لا تمحوها السنون و لا تقنية العصر أو مدنيته.  كان رحمه الله معجباً بحديقة بيته على سفح الجبل يمضي بها أكثر أوقاته, نظمها بنفسه و زرعها بالورود و أشجار الفاكهة و كم كان يحلو له تناول الأكلات الشعبية المتوارثة تحت ظلال أشجارها,  يحضرها بنفسه و يتناولها مع الأصدقاء على طريقة آبائنا و أجدادنا و بالآنية المخصصة لها لأنه كان يعتقد بأن طعمها و مذاقها يرتبطان بطريقة أكلها و تحضيرها.

 

 كان رحمه الله ناقداً ذكياً و ظريفاً, مفعماً بروح الدعابة و الممازحة , حتى في مواقفه الجدية, كانت النكتة الظريفة لا تفارقه.  كان يتألم لمن أصبحوا عبيداً للعادات و التقاليد البالية, يطبقونها ليس احتراماً لها و إنما جهلاً و تجاهلاً ليخرجوا رؤوسهم منها تباهياً و غروراً.

 

كان رحمه الله يشارك في المآتم أكثر مما يشارك في الأفراح, و ما أكثر ما تراه و الأصحاب يتحلقون حوله في ساحة الكنيسة أثناء صلاة الجناز, يتبادلون الأحاديث في أمور الدين و الدنيا بطريقته المحببة.  وأذكر أنني سألته مرة و نحن في ساحة الكنيسة, هل تؤمن بالله؟ فأجاب: أكثر مما تظن!, فقلت معقباً: تعال إذن ندخل الكنيسة!, فأجاب: سأدخل عندما يأتي دوري.  فقلت له: و لكن عندها لن تسمع كلام الله, فأجاب: "صدقني أنا أعرف كلام الله و أومن به مثل أفضلهم".

 

عُرف عنه رحمه الله بأنه يخاف ركوب الطائرة, فسألته مرة و هو يقود سيارته بنا في رحلة برية طويلة مع أحد الأصدقاء, هل صحيح يا رجل أنك تخاف ركوب الطائرة؟ فأجاب: هذا صحيح, مثلي مثل ستالين الزعيم السوفيتي الراحل الذي كان يخشى ركوب الطا ئرة,  و هذا اللغز في حياتي لم أجد له حلاً مذ كنت صغيراً, و عندما أصبحت كبيراً, حاولت أن أقنع نفسي بأن حوادث السيارات أكثر من حوادث الطائرات بمئات المرات و أنا أسافر بالسيارة كل يوم و لكن دون جدوى, فأنا أخاف من الطائرة كمن يخاف من المرتفعات أو الظلام أو عواء الذئاب. 

 

لقد عمل رحمه الله في شبابه بجد و نشاط و جمع ثروةً تكفل له العيش الرغيد, و كان بإمكانه أن يضاعفها مرات كثيرة و لكنه كان يؤمن بالقناعة و يمتاز بفلسفة خاصة في نظرته للحياة الدنيا, فالحياة بالنسبة له ليست بعدد السنوات التي يحياها الإنسان و إنما بالأوقات السعيدة التي يعيشها منسجماً مع نفسه يمارس حياته و ما اعتاد عليه بكل حرية و سرور, لا بل إنه ابتعد أكثر من ذلك في تطبيق قناعاته الفلسفية على الحياة الزمنية, فلم يكن يرى طعماً للحياة مع المرض المميت, و كأني به قد طبق ذلك فعلياً عندما سمع من طبيبه بوجود مرض قلبي يستحق العلاج السريع, فتأكدت ظنونه و هو أعرف الناس بنفسه,و عندها أطبق عينيه و غادر الدنيا في دقائق معدودة.

 

رحم الله وصفي هوارة و أسكنه فسيح جناته و ألهم أهل بيته و محبيه الصبر و السلوان...

 

طوني بطيخ